إقتصاد

مستقبل لبنان الاقتصادي رهن قرارات جريئة: هل يواكب التغييرات؟

(المدن)

بين أتون مواجهة عسكريّة مدمّرة مع إسرائيل من جهة، وضغط أزمته الماليّة الاجتماعيّة من جهة أُخرى، يقف لبنان أمام منعطف تاريخي لا يقلّ حدّة عمّا عرفه في محطّات الحرب الأهلية أو “صدمة” ما بعد انفجار المرفأ. في هذه اللحظة التي يعاد فيها رسم خرائط النفوذ الإقليمي وشبكات التجارة العابرة للقارات، استضاف مركز “مالكوم كير–كارنيغي للشرق الأوسط” ندوة تناولت سؤالًا بدا في صلب مستقبل البلد: كيف يقطع لبنان الطريق الصعب نحو إصلاح مالي واقتصادي قادر على استعادة الثقة وجذب الرساميل؟ هذا السؤال تحديدًا هو ما حاولت الندوة تفكيكه في حوار مفتوح جمع وزير الاقتصاد والتجارة عامر بساط، والخبير الاقتصادي ألبير كوستانيان، بحضور حشد من الاقتصاديين والدبلوماسيين. لينتهي على تأكيد بأنّ مستقبل لبنان الاقتصادي يرتبط بقدرته على اتخاذ قرارات جريئة وصادقة، وأنّ الطريق وإن كان شاقًّا، إلّا أنّه يفتح الباب أمام نهضة اقتصاديّة طال انتظارها، وسط عالم يعاد فيه رسم الخرائط السياسيّة والاقتصاديّة بشكل جذري.

تحوّل النظام الاقتصادي العالمي وصعود الخليج
البداية استدعت توصيف اللحظة التاريخيّة: فلبنان، وفق يحيى، يقف عند منعطف حاسم؛ جبهة الجنوب انفجرت ثم خمدت، لكنها كشفت هشاشة بنيته الدفاعيّة – الماليّة والاجتماعيّة – أكثر ممّا كشفت قوّته العسكريّة. في الوقت نفسه، تتقاطع رياح التبدُّل الإقليمي مع حسابات جيو-اقتصاديّة تعيد تشكيل مراكز الثقل من الخليج إلى شرق المتوسِّط، مرورًا بممرّات تجاريّة جديدة تربط الهند بأوروبا عبر المنطقة. زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى الخليج، بما حملته من وعود استثماريّة تناهز التريليوني دولار في القطاعات المتقدِّمة، تحوّلت، في رأي المشاركين، إلى “جرس إنذار” لدول لم تُحسن بعد قراءة الاصطفافات المقبلة.

بناءً على ذلك، قدّم الوزير عامر بساط رؤية مركّبة؛ وتحديدًا بالإشارة إلى أنّ ما سمّاه “لحظة التحوُّل” لم يبدأ مع التطوُّرات العسكريّة الأخيرة ولا مع زيارات الرؤساء إلى عواصم الخليج، بل هو نتاج تراكمات انكشفت تباعًا منذ اضطرابات سلاسل الإمداد التي فجّرها وباء كوفيد-19 ثم تردُّداتها في الحرب الأوكرانيّة. يلفت إلى أنّ النظام التجاري المتعدِّد الأطراف، كما بُني بعد الحرب الباردة، يتراجع لصالح سياسات حمائيّة مقنّعة بتعريفات جمركيّة انتقائيّة وتحالفات ثنائيّة تُقصي البلد الذي لا يملك رؤية واضحة لتأمين موقعه ضمن خرائط النفوذ الجديدة. هنا تحديدًا، يقول بساط، يبرز الرهان على دول كانت تُعَدّ أسواقًا استهلاكيّة صرفة فإذا بها تتحوّل مراكز إنتاج وتصدير في قطاعات تتراوح بين التقنيّة العالية والطاقة المتجدِّدة؛ دول مثل الهند، فيتنام، المكسيك، لكن أيضًا المغرب والخليج العربي، وجميعها تحجز مقاعد متقدِّمة في “نظام مالي دولي ينتقل من ليبراليّة متفلِّتة إلى انتقائيّة تُملِيها اعتبارات سياديّة”، على حد تعبيره.

في المقابل، يضع كوستانيان الإصبع على ما يعتبره “تحوّلًا جيو-اقتصاديًّا جذريًّا” قلب موازين القوى في الشرق الأوسط. فبعد عقود كان المحرِّك الاقتصادي فيها يدور بين الحضور الإسرائيلي والتركي والإيراني، يرتفع منسوب التأثير الخليجي “إلى حد يتيح الكلام عن انتقال حقيقي لمركز الثقل المالي والاستثماري صوب أبو ظبي والرياض والدوحة وغيرها من العواصم التي تعيد هندسة اقتصاداتها على قاعدة تنويع عميق في مصادر الدخل وتطوير مؤسّسي يجاري المعايير العالميّة”. تتجلّى هذه القفزة، وفق كوستانيان، في استثمارات بمئات المليارات تُضخّ في قطاعات الذكاء الاصطناعي وطاقة الهيدروجين الأخضر والبنية التحتيّة الرقميّة، ما يجعلها بديلًا جاذبًا لرؤوس الأموال التي تحجِم، لأسباب سياسيّة وأمنيّة، عن الاندفاع شمالًا أو شرقًا.

السؤال الجوهري: كيف يلتحق لبنان؟
يتقاطع الطرحان عند سؤال جوهري: كيف للبنان أن يلتحق بهذا “القطار المسرع” بعد أن فقد نصف ناتجه المحلي الاسمي بين 2018 و2024 وتراجعت قدرته على خدمة دينه العام إلى مستوى يوشك فيه أن يبقي الدولة رهينة الاقتصاد النقدي المنهَك؟ هنا، يسترجع بساط نظريّته القائمة على تحرير قدرات القطاع الخاص عبر بيئة تنظيميّة مرنة لا تُعطِّلها قيود التسييس؛ أي ترك قوى السوق تعيد تدوير فوائض المغتربين اللبنانيين واستثمار الرأسمال البشري المحلي ذي الكلفة التنافسيّة، مع ما يستلزمه ذلك من حوكمة ماليّة تُبطِل مفعول “التشوّهات المصرفيّة” التي راكمت فجوة ملاءة تتخطى 70 مليار دولار. ويسانده في هذا الطرح مثل صارخ لدول ذات قاعدة إنتاجيّة ناشئة تغتنم فرص التموضع اللوجستي في ممرّات التجارة الجديدة، من المغرب الأقرب إلى أوروبا إلى العراق الذي يعيد اكتشاف دوره صلة وصل بين الخليج وشرق المتوسِّط.

صندوق النقد الدولي: عصا الانضباط
غير أنّ كوستانيان، وإن لم يختلف على تشخيص الداء، يرى في وصفة صندوق النقد الدولي “عصا الانضباط” التي لطالما افتقر إليها لبنان كلما اقترب من نافذة إصلاح مالي جادّ. فالبلد، كما يقول، استنزف ثلاث سرديّات متتابعة لتأجيل المواجهة: أوّلًا إنكار الأزمة لرفض ضوابط رأسماليّة بديهيّة؛ ثم الادّعاء بأنها أزمة سيولة ستحلها الأموال الطازجة؛ وأخيرًا رمي المسؤوليّة برمّتها على الدولة وحدها لتجنيب المصارف إعادة هيكلة لا مناص منها إذا أُريد لأي برنامج تعاف أن يقف على أقدام ثابتة. من هذه الزاوية يبدو خيار اللجوء إلى الصندوق، لا طلبًا لثلاثة أو أربعة مليارات دولار هي الحد الأقصى لطاقته التمويليّة، بل سعيًا وراء “الختم السيادي” الذي يعطي إشارة بأنّ لبنان امتلك الإرادة السياسيّة لتقييد نفسه بإصلاحات واضحة في الماليّة العامّة والإدارة الضريبيّة والحوكمة المصرفيّة.

البعد الاستراتيجي لإعادة دمج إيران
تتداخل الاعتبارات الاستراتيجيّة مع الماليّة عندما ينتقل النقاش إلى أثر أي تسوية دوليّة محتملة تعيد دمج إيران في النظام الاقتصادي العالمي. فيرى بساط أنّ استقرارًا أمنيًّا إقليميًّا قائمًا على ضبط التوتّر الأميركي-الإيراني يفتح أبوابًا أمام استثمارات تتطلّع إلى سوق تفوق التسعين مليون مستهلك على بُعد رحلة طيران قصيرة من بيروت، فيما يقرأ كوستانيان سيناريو الدمج الإيجابي على أنه فرصة مزدوجة: أولًا لخفض الأكلاف غير المنظورة التي يتحمّلها لبنان نتيجة الاستقطاب السياسي الذي يضعه في قلب “حرب الوكالة”، وثانيًا لتحويل طاقات الشباب الإيراني المتعلّم إلى قيمة مضافة في سلاسل الإنتاج الإقليميّة، شرط أن يحسم لبنان معضلة سلاح “حزب الله” بما يضمن حصرية العنف المشروع بيد الدولة، ويقدّم بذلك جواز عبور استثماريًّا لم يكن يومًا صعب المنال بقدر ما كان رهينة عدم اليقين الأمني والسياسي.

الحراك الحكومي والفرص الداخليّة
تنزلق المناقشة إلى مستجدّات الحراك الحكومي الداخلي، حيث يؤكِّد بساط أنّ “البلاد لا تُقاس بحجم القروض التي تستجديها بل بحجم رأس المال الذي تقدر على توليده داخليًّا وأخذه في توظيف فعّال”. ويستشهد بتعديل قانون السريّة المصرفيّة بوصفه مثالًا على قدرة السلطة التنفيذيّة الراهنة على اتخاذ قرارات كانت تُعَدّ خطوطًا حمراء قبل أعوام قليلة، مستنتجًا أنّ “المجتمع الدولي أكثر استعدادًا لدعمنا ممّا نحن مستعدّون لدعم أنفسنا، بشرط أن نُحسن استخدام ما نملك من موارد”. في هذا السياق يطرح هدفًا طموحًا بمضاعفة الناتج المحلي في سبع سنوات عبر نظرة تركّز على القطاعات القادرة على توليد قيمة مضافة عالية بموارد محدودة نسبيًّا: التكنولوجيا الماليّة، الابتكار الرقمي، الاقتصاد الإبداعي، والسياحة الطبيّة والتعليميّة.

على هامش الندوة، بدا واضحًا أنّ مهمّة إنقاذ لبنان من انهيار مالي شامل لم تعُد ترفًا يمكن تأجيله أو ترحيله إلى حكومة لاحقة. فالمؤشرات النقديّة تحذِّر من أنّ الاحتياطي الإلزامي لدى مصرف لبنان يتآكل بوتيرة أسرع من إعادة تكوينه، فيما يقضي ثلث اللبنانيين أكثر من 45 في المئة من دخلهم الشهري على الغذاء وحده، وتختفي رصيد الطبقة الوسطى التي طالما وفّرت شبكة أمان اجتماعي غير مكتوبة. في المقابل، يقدِّم المغتربون تحويلات قياسيّة تناهز سبعة مليارات دولار سنويًّا، ويملك القطاع الخاص مرونة نادرة في التكيّف مع بيئة أعمال صعبة تجمع في آن واحد أزمة سيولة محليّة وتشديد شروط التمويل الدولي. هذه المفارقة بين وفرة الطاقات وندرة الحوكمة هي التي تدفع كوستانيان إلى التحذير من أنّ “التأخّر سنة إضافيّة في إبرام اتفاق مع صندوق النقد قد يكلِّف لبنان عقدًا كاملًا من الفرص الضائعة”، بينما يُبقي بساط الباب مفتوحًا على سيناريو “الانبعاث الذاتي” إذا ما كُرِّست الإرادة السياسيّة لإقرار حزمة إصلاحات متكاملة تعيد توزيع الخسائر بعدالة وتمهِّد لتدفّق الرساميل والاستثمار طويل الأجل.

بين الانخراط والركود

مع انقضاء ساعة ونصف من الحوار المكثّف، بدا أن الخلاصة هي أنّ الخيارات أمام لبنان ليست بين الانهيار والرخاء فحسب، بل بين الانخراط الفعّال في النظام الاقتصادي الإقليمي الجديد وبين الركون إلى حالة ركود تفاقم التهميش بينما يركض العالم إلى الأمام. بهذا المعنى، بدا النقاش في “كارنيغي” أشبه بجرس إنذارٍ أخيرٍ أكثر منه احتفاءً بما تحقّق حتى الآن. لكنّه، في المقابل، رسم ملامح طريقٍ واضحةٍ لمن أراد أن يرى: طريقٌ شاقّةٌ، نعم، غير أنّها مفتوحةٌ على استعادة موقعٍ اقتصاديٍّ طال انتظاره في عالمٍ يعيد صياغة خرائطه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى