“لم يُسرق بستاني لمرة واحدة فقط، بل ثلاثُ مرات، وبلغ وزن المسروق من فاكهة الأفوكادو نحو تسعة أطنان تُقدر قيمتها بنحو ٢٠ ألف دولار أميركي”..هكذا يروي المزارع محمد حجازي من بلدة البابلية جنوب لبنان ما حصل معه، ويرسم مشهد عانى منه الكثير من مزارعو الجنوب الذين وجدوا أنفسهم نتيجة الحرب الأخيرة على لبنان مضطرين لمغادرة أراضيهم وقراهم تاركين خلفهم أرزاقهم ومواسمهم الزراعية من الزيتون والأفوكادو للّصوص وضعاف النفوس.
وشكلت الحرب على لبنان كارثة حقيقية للمزارعين حيث أدت بحسب تقرير صادر عن البنك الدولي منتصف تشرين الثاني/نوفمبر 2024 إلى تدمير المحاصيل والماشية وتشريد المزارعين، وإلى خسائر وأضرار في قطاع الزراعة بلغت حوالي 1.2 مليار دولار أمريكي.
بدوره يشرح السيد محمد الحسيني رئيس تجمع نقابة مزارعي الجنوب في لقاء خاص أنه منذ اندلاع الحرب وحتّى هذه اللحظة لم تستطع وزارة الزراعة والقطاع الأمني من إجراء إحصاء أو تقرير عن حجم الأضرار والسرقات التي حصلت وتحصل، والسبب هو استمرار العدو الاسرائيلي في جرف الأراضي الزراعية.
وبناءً على ما سبق تفتح هذه الأضرار الكبيرة، وتوسع دائرة سرقات المحاصيل الباب للتساؤل عن أدوار القوى الأمنية في حماية الأراضي التي خلت من سكانها أثناء الحرب، وما هي التحديات الأمنية واللوجستية التي أعاقت القيام بالمهام؟ كما وعن أدوار من بقي من الأهالي والجهات المحلية في منع هكذا تجاوزات ولو بالإمكانيات المحدودة.
بين السرقة والقصف
عانى مئات المزارعين الجنوبيين منذ أكثر من عام الويلات من آثار الدمار الكبير الذي لحق بأراضيهم الزراعية نتيجة قصف العدو الإسرائيلي الذي لم يُوفر نوعًا من الأسلحة المدمرة، الكيميائية والفوسفورية، إلا وألقاها على القرى.
اعتاد “محمد” (وهو مزارع ورث عدد من كروم الزيتون في بلدة البابلية) كل سنة أن يجني محصولا يعتاش من قيمته طيلة السنة، بعد عناء وتعب “الفلاحة” والعمل. وكان مردوده أحيانًا يبلغ 200 تنكة زيت (أي ما يعادل 3000 لتر من الزيت). لكن هذه السنة كانت الكارثة عندما بدأت الحرب في نفس وقت القطاف مما اضطره إلى النزوح شمالًا خوفًا على حياته، تاركًا وراءه الموسم بما حَمل.
وعن خسارته يقول محمد: “الرزق بروح وبيجي بس العمر بنعيشه مرة، ولي كاتبوا الله بصير” مطالبًا الدولة والمجتمع الدولي ليس بالتعويض بل بالوقوف بجانبه وبجانب المزارعين المتضررين لاجتياز هذه المحنة، كونه تعرّض كما الكثيرين في المنطقة إلى سرقة محصوله من دون وجود لا حسيب ولا رقيب. وعند سؤالنا إذا كان أحد من المعنيين قد تواصل معه أجاب محمد، “أرسلوا لنا تطبيق خاص بوزارة الزراعة لتسجيل وإحصاء الخسائر ونأمل أن يأتي بنتيجة”.
ل “ياسين” قصة أخرى، فهو “وكيل” لأحد البساتين الكبيرة والمنتجة في البابلية أيضًا، إعتاد أن يستيقظ كل صباح لكي يتفقد بستانه في وقت الحرب، ولكن في الاسبوع الثاني اكتشف أنه يتعرض للسرقة، فقرر تعقب السارقين من خلال إبلاغ شباب البلدة الذين كانوا يساعدون في الحفاظ على الأمن (مبادرة شبابية فردية للحفاظ على الأمن والممتلكات).في نفس الليلة تم القبض على السارقين وتسليمهم الى القوى الامنية التي قامت بعملها وأكملت إجراءاتها على أكمل وجه، لكن بعد يومين من الحجز تم إخلاء سبيلهم بضمان محل إقامتهم لعدم استطاعة مالك البستان الحضور(بسبب خطر الحرب) لرفع دعوى قضائية لدى النيابة العامة في صيدا.
أدوار القطاع الأمني!
وجد القطاع الأمني في هذه الحرب نفسه أمام تحدي كبير لمكافحة حالات السرقة المتعددة للمحاصيل الزراعية خاصة في المناطق التي تعرضت للقصف والاعتداءات والتي قد يكون من الصعوبة بمكان التواجد فيها بشكل دائم ودوري. لكن مصادرًا أمنية جنوبية أكدت متابعتها الحثيثة للموضوع، ونفت وجود عصابات منظمة، موضحة أن الأمر يحصل في مناطق مختلفة وتجري متابعته وكشف السارقين.
وفي اطار الجهود أفادت المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي ـ شعبة العلاقات العامة في بيان، أنه وبعد توافر معطيات لشعبة المعلومات حول قيام مجهولين بسرقة المحاصيل الزراعية، وقطع الأشجار وبيع الحطب من الأراضي التي يصعب على أصحابها الوصول إليها نتيجة الوضع الأمني، كثّفت الشعبة إجراءاتها واستقصاءاتها وتمكنت من تحديد هوية أحد المشتبه بهم، ويُدعى: ك. خ. (مواليد عام 1983، لبناني). وبتاريخ 18-12-2024، وبعد عملية رصد ومراقبة دقيقة، تمكنت إحدى دوريات الشعبة من توقيفه في محلة حاصبيا. وبالتحقيق معه، اعترف بما نسب إليه وأنه كان يتردد بشكل يومي إلى بلدة راشيا الفخار بغية سرقة كميات كبيرة من المحاصيل الزراعية والحطب من الأراضي.
وتفيد المعلومات الأمنية في منطقة الزهراني أنه خلال الحرب تم القبض على شخصين قاما بسرقة بعض الكروم لكن تم إخلاء سبيلهم بعد يومين من تاريخ الاعتقال بسبب اسقاط التهمة الموجهة اليهم لدى المدعي العام في صيدا.
وعن أدوار القوى الأمنية في هذا الخصوص، يفيد مصدر في قوى الأمن الداخلي أن التهديد اليومي والمباشر من قبل العدو الإسرائيلي، وغياب الدور الحكومي السياسي، المادي، والمعنوي الداعم هما الأسباب الرئيسية لعدم فعالية الإجراءات، مع العلم أن المراكز بحسب المصدر لم تخلو من العناصر بل خلت من الدوريات الامنية في المناطق والقرى مما أدى إلى ازدياد السرقات والتعديات الأمنية. ويضيف المصدر أن مع بداية “الهدنة” عادت القوى الأمنية لأداء مهماتها على أكمل وجه، حيث تسير جميع المهمات توازيًا مع القرارات العدلية.
مبادرات شبابية ومحلية
نشأت في بلدة “البابلية” مبادرة شبابية فردية للحفاظ على الأمن والممتلكات وذلك بعد عدم قدرة القوى الأمنية تأدية مهمتها في البلدة والجوار. وكُوّنت ضمن المبادرة مجموعة من خمسة عشر شخصًا مهمتهم الانتشارعلى مدار الساعة في الأحياء والمداخل الرئيسية، وحماية أملاك أهالي البلدة من السرقة وعدم السماح لأي شخص غريب بالاقتراب.
يروي علي (أحد أعضاء المبادرة) أن من أهم الأدوار التي قامت بها المجموعة هي قطف مواسم الزيتون في عدد كبير من الكروم وعصرها وتخزينها لحين انتهاء الحرب. وبعد القطاف كانت تُنقل الكمية تحت القصف الى إحدى المعاصر في صيدا. وبعد انتهاء الحرب “قمنا بتسليم كل الكميّة لأصحابها”.
كما لعبت هذه المجموعة أدوارًا مساعدة في حفظ الأمن بخلاف قضية السرقات، فبحسب “حسين” (عضو اخر في المبادرة ) تمكنت المجموعة من إلقاء القبض على مغتصب في البلدة. ويروي حسين أنهم تواصلوا مع مفرزة عدلون التي سمحت لهم بمراقبته طوال مدة الحرب. وعند اللحظات الاولى لوقف إطلاق النار فجرًا أقدمت دورية من فصيلة عدلون على توقيف المدعو ح.ص مواليد العام 1980 لبناني الجنسية في محلة البابلية بجرم اغتصاب ابنته وحملها منه وعثرت بحوزته على مسدس حربي وكمية من حشيشة الكيف وبعض الاجهزة اللاسلكية وشبكة ارسال.
وعن أدوار الجهات البلدية يشرح رئيس لجنة إدارة الكوارث في اتحاد بلديات الزهراني سلام بدر الدين أن الاتحاد عمل في ظل أزمة نزوح كبيرة شكلت عبئًا إضافيًا على البلديات التي تعاني أساسًا من أزمة خانقة، مؤكدا أنهم كانوا يقدموا الدعم اللازم للأجهزة الأمنية من خلال التعاون والتنسيق معها نظرًا لعدم إمكانية البلديات على الحد من السرقات. ولفت بدرالدين إلى أهمية الدور التي قامت به الجمعيات والمنظمات الدولية والمحلية لمعالجة الأزمة مشيرًا إلى أنه كان هناك معاناة حقيقية يعيشها النازحون الذين تركوا قراهم و منازلهم وأعمالهم وأرزاقهم وهم بمعظمهم عائلات تعيش تحت خط الفقر، مواردها محدودة وتعتاش من الزراعة.
يُنشر هذا التقرير في إطار البرنامج التدريبي حول “أسس ومبادئ التغطية الإعلامية لقضايا الأمن في لبنان” الذي نظمّته مؤسسة “مهارات” بدعم من مركز جنيف لحوكمة قطاع الأمن “DCAF”. هذا المحتوى لا يعكس بالضرورة آراء مركز جنيف لحوكمة قطاع الأمن.